الأحد، أغسطس ٢٧، ٢٠٠٦

صديقي "مصري"

لي صديق يلازمني ولم يفارقني منذ الصغر اسمه "مصري" ... هو من أكثر الناس الّذي عرفتهم نبلا وإخلاصا وعاطفيّة على المستوى الإنساني ... ومن أكثرهم دهاء وحيلة وقدرة على الإبداع على المستوى العقلي ... ولكنّ كعادة كلّ شيء كان لمصري مشكلة كبيرة ... "الخوف" ... فقد كان يتفنّن في الهروب من مخاوفه ويتجنّب مواجهتها بكل الطرق ...

ولا أنسى ذلك العام الّذي تعطّلت فيه سيّارة مصري؛ تلك السيارة المتهالكة العتيقة ... هو لم يخترها ولكنّها فرضت عليه فقد ورثها عن أبيه على ما يبدو، وقد كانت كثيرة المشاكل بالفعل ولم يدّخر صبرا في تحمّلها ولا فعلا في لعنها وشتمها طيلة اليوم ... ولكّنها على الأقلّ كانت تعمل ... حتّى جاء يوم وتعطل محرّكها وقال "بلية" ميكانيكي "الحتّه" لمصري يومها "على رأي سعد زغلول ... مفيش فايده ... لازم تغيّر الماتور!" ولم يكن ذلك في حدّ ذاته مشكلة ... ولكنّ أسوء مخاوف مصري تحقّقت عندما علم أنّ ثمن التغيير فادح وأنّه سيكلّفه عرقا بل ودما وكما تعرفون صديقنا مصري "شحّات" بطبيعته؛ فمهما كسب يجب أ ن يضيعه لأنه "فنجري" ويموت في "الفشخرة"!

المهمّ ... مضى أخونا مصري في طريقه المعتاد لحلّ مشاكله ... فبدلا من الحلّ المكلّف تفتّق ذهنه "الفهلوي" عن أنه قد يتمكن من إعادة سيّارته للحياة مجدّدا... وهكذا ذهب لميكانيكي الحارة المجاورة "عبده فتاكة" الّذي أكّد له أنّ "بلية ده واد حرامي ونصّاب" وأكّد له أنّه "باش مهندس" كبير وأنّ ذهنه الذّي يساوي وزنه ذهبا وجد الحلّ "المتين" وأنّ سعد زغلول "انهزامي" وخليّك مع "السادات" تكسب! وهكذا دفع مصري مبلغ معتبر مقابل العمرة بالإضافة إلى مبلغ ضخم لسيارات الأجرة مقابل توصيله لعمله وتوصيل أولاده لمدارسهم لمدّة أسبوع... وأخيرا استلم مصري سيارته الّتي لم تمشي سوى يوم واحد ثمّ تعطل محرّكها مرّة أخرى! فعاد مصري ثائرا "لعبده فتاكة" فوجد في نفس مكان ورشته محلّ سباك! فلمّا سأله أين "عبده" قال له أنّه كان يعدّ منذ فترة طويلة للهجرة لكندا ولكن "الفلوس كانت مأصّره معاه بس ربّنا بعتله زبون أهبل من إيّاهم – إوعدنا بأه يا رب – فباعلي المحل وحط دول على دول وراح كنكا ... إدعيلو يا بيه دول بيقولوا ولاد الحارة إنه حيشتغل مدير خط إنتاج مرسيدس هناك!".

عاد مصري يجرّ أذيال الخيبة والمهانة ولا يعرف ماذا يفعل غير شتم الميكانيكية ولعن جدودهم في الأرض؛ نصحته بتغيير الموتور ولكنّه أبا وصمّم على أنّ المشكلة الحقيقيّة هي "إن مافيش حد في البلد ده حد فاهم حاجة ... أنا بس الّي بفهم" وقرّر أن يأخذ السيارة لبيت خبرة أجنبي ليتم فحصها؛ وهناك أكّدوا له بعد إجراء 38 فحصا وتغريمه مبلغ يزيد عمّا دفعه في العمرة أنّ المشكلة فعلا في المحرّك وأنّه يجب تغييره! وتحت وطأة المصاريف صرخ مصري ألما وقرّر أنّه سيقاطع الغرب بسيّاراته وبشركاته ومنتجاته لأنّه يسرقنا وينصب علينا ويعطي تلك الأموال لليهود لقتل الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والأفغان والشيشان! وهكذا قرّر مصري أنّه لن يركب سوى منتج مصري خالص لا مستورد ولا حتّى مجمّع في مصر ... يجب أن يكون مصمم ومصنّع ومجمّع 100% في مصر... وللأسف لم تنطبق شروط مصري على أيّ شيء يمشي على ثلاث أو أربع في مصر سوى الحمار! وهكذا دفع مصري ثمن الحمار وهو مبلغ ليس بقليل كما اضطرّ لدفع ثمن أكوام من البرسيم وتكاليف بناء حظيرة ورشاوي ... عفوا ... رسوم التصريح الخاص ببنائها. وترتّب على بطئ حمار مصري أنّ أبناءه رسيوا في دراستهم في ذلك الفصل الدراسي بسبب وصولهم دوما متأخرين عن بداية الحصّة كما أنّ مصري نفسه حصل على إنذاران بالفصل لذات السبب فكره مصري وأبناءه المعلمين والمديرين وصاروا جميعا يحتقرون كليّة التجارة ويعتبرونها مثل كلّ المصريّون كليّة "قاع" على عكس كلية "الهندسة" الّتي تخرّج منها وهي كليّة "قمّة" و"يا سلام لو كانوا كلّ المديرين مهندسين زيّي كنّا ركبنا البلد كلّه حمير ووفرّنا البترول وقللنا التلوث وحافظنا على البيئة! تجربة تتعظ منها الأمم والله!" كما أنّ منظر وجوه المعلمّين والمديرين العكر لم يكن "مأطأط" ولا طيب مثل وجه "حصاوي" (اسم حمار مصري الّذي أطلقته عليه ابنته الصغرى) ...

ولكنّ اللعن والشتم لم يحلاّ مشكلة بطأ الحمار والأكثر من ذلك أنّ مصري بدأ يحس بتأنيب الضمير لكثرة تعدّيه على الآخرين بالسبّ والشتم وبدأ يفكّر جدّيا أن المشكلة ليست في المحرّك ولا في السيارة ولا فالغرب ولا الميكانيكية ولا المعلمين ولا المديرين بل هي فيه هو نفسه وأنّ اللّه لا يصلح ما بقوم حتّى يصلحوا ما بأنفسهم، وأنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم كان له حمار يتنقل به وكذلك عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام جاء من فلسطين لمصر مع أمّه مريم العذراء على ظهر حمار فقطعا المشكلة ليست في الحمير وإنّما هي في عدم إيمانه وانشغاله عن دينه بالسيّارة ومشاكلها وهي أصلا من اختراعات "الكفرة" الكثيرة التّي يهدفون منها أن يفتنونا وأن يلهونا بها عن صلاتنا وعن الدعاء والقنوت من خلال إغراقنا في متعة القيادة ونشوتها! وهكذا رفع مصري شعار الدين هو الحلّ وأخذ يدعي ربّه أن يفك أزمته ليل نهار، وكلّما سأله مديره عن سبب تأخّره أو عدم وجوده على مكتبه علّل ذلك بأنّه كان يصلّي فيخشى المدير أن يحرجه أكثر بالسؤال فيتهمه بأنّه يريد أن يمنعه عن دينه فيستفز في كلّ زملائه الموظفين نخوتهم الدينية وتقع كارثة وفتنة حقيقية! فسكت المدير وانتظروا أتفه خطأ يرتكبه مصري، وأوقفه عن العمل تمهيدا لطرده! واستفحلت المشكلة ...

الدعاء لم يصلح السيارة ... والحمار هلك من كثرة المشاوير كما أنّ تلوّث القاهرة الخانق أمرضه، كما أنّ أمّ العيال تريد زيارة أهلها في طنطا والأولاد يريدون أن يذهبوا للملاهي ومنظرهم بين زملائهم ولاد الناس "الهاي" (وكما تعرفون مصري يموت في "العنطزة") أصبح مسخرة ولم تعد دعاوي العودة للأصل وحماية البيئة الّتي يرددونها تجدي نفعا مع الوقت ... وهكذا... اضطرّت "باتعة" (زوجة مصري) أن تبيع ذهبها وتشتري موتورا جديدا للسيارة وبذلك تكون قد أخذت القرار الّذي ظلّ زوجها يخشى اتخاذه طويلا مع أنّه في المجمل أنفق أكثر من ثمن الموتور بكثير ... ونجح الأولاد في دراستهم بعد أن انتظموا في الحضور وكذلك عاد مصري لعمله بعد أن عاد للحضور في ميعاده...

أحبّ هذه القصّة كثيرا لأنّها تذكّرني بصديق آخر في بلاد الواق الواق! هذه البلد سيّارتها (مشكلتها) هي حكومتها ومحرّك هذه السيارة – رئيس الجمهورية – ببساطة "خربان" ويجب تغييره وقد يكون ثمن ذلك فادحا ولكنّ ما ندفعه بالهروب من مسؤوليتّنا أفدح ... لن تجدي الحلول البديلة محلّ الحلول الأصيلة وأرجوا ألاّ يأتي على بلادنا يوم يصبح فيها رجالها ذوي القوامة الّتي قال بها الله سبحانه وتعالى غير ذوي نفع ولا قدرة فتضطرّ نساءنا أن تقوم بما قصّرنا فيه كقول كلمة الحقّ في وجه سلطان جائر والوقوف والتظاهر في وجهه والتعرّض للأذى وهتك العرض على يد زبانيته بل والحبس والتعذيب على يد شرطته ... ولكن لما يشغل مصري باله بكلّ هذا ... فهذا لا يحصل سوى في بلاد الواق الواق وليس في مصرنا العزيزة! ... وقل على الدّنيا السلام ...

أسامة م. حجي

ليست هناك تعليقات: